تشريعات حمورابي

Abstract

تعد شريعة حمورابي إحدى أبرز الشواهد التاريخية على تطور الفكر القانوني في الحضارات القديمة، حيث تمثل مرحلة متقدمة في مسار بناء الدولة المنظمة ذات التشريعات المدونة، تهدف هذه الدراسة إلى تقديم تحليل موسع لهذه الشريعة من خلال وضعها في سياقها الحضاري ضمن بلاد بابل في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، مع التركيز على تحليل مضامينها القانونية والاجتماعية واستكشاف أثرها التاريخي على المدونات اللاحقة، مثل الشريعة العبرية وقوانين شعوب حضارت الجوار، فضلاً عن تتبع امتداداتها في النظم القانونية والفكر القانوني المعاصر. تستند الدراسة إلى فرضية رئيسة مفادها أن شريعة حمورابي ليست مجرد مجموعة من النصوص العقابية أو التنظيمية، بل تعبر عن مشروع حضاري متكامل يهدف إلى ترسيخ سلطة الدولة وتنظيم المجتمع ضمن إطار رؤية دينية وقانونية موحدة، لتحقيق هذه الفرضية استُخدم مزيج من المناهج العلمية مثل المنهج التاريخي لدراسة السياقات التي نشأت فيها شريعة حمورابي، والمنهج التحليلي لتفكيك مضامينها وبنيتها القانونية، والمنهج المقارن لرصد أوجه التشابه والتباين بين الشريعة البابلية والأنظمة التشريعية الأخرى. تمهيدًا للدراسة، ركز الفصل الأول على تقديم قراءة تاريخية عميقة للواقع السياسي والاقتصادي والديني والثقافي الذي هيأ الظروف لنشوء شريعة حمورابي، تناول هذا الفصل تطور مدينة بابل وتحولها إلى مركز حضاري وإمبراطوري في عهد حمورابي، مع دراسة سيرته السياسية ودوره كمشرّع وظّف السلطة الدينية لإضفاء شرعية قائمة على مفهوم العدالة المرتبطة بالإرادة الإلهية، كما أظهرت الدراسة أن الشريعة جاءت كنتيجة مباشرة لسياسات حمورابي الإصلاحية والعسكرية، التي هدفت إلى توحيد المجتمع وترسيخ مركزية الحكم ضمن نطاق جغرافي واسع. في الفصل الثاني، تناولت الدراسة بالتحليل البنية الداخلية لشريعة حمورابي من حيث مصادر التشريع، وأهدافه، وهيكليته القانونية. أبرز التحليل أن الشريعة تضمنت نظامًا قانونيًا متكاملًا وشاملًا لمجالات متعددة مثل القضاء، والأسرة، والمعاملات التجارية، بالإضافة إلى العقوبات. وتميزت الشريعة بتبنيها مبدأ العدالة ولو بصيغة طبقية، مع إيلاء اهتمام خاص بحماية الفئات الضعيفة مثل الأرامل، اليتامى والعبيد،كذلك كشفت النصوص عن تصور متقدم للمسؤولية والعقوبة والضبط الاجتماعي، بما يعكس رؤية تشريعية تهدف إلى التنظيم وإرساء النظام تحت مظلة مؤسسة قانونية معلنة تستبدل الحكم الشخصي أو العرفي بتقنين مؤسسي. انتقل الفصل الثالث إلى استعراض الأثر التاريخي لشريعة حمورابي عبر دراسة مقارنة بينها وبين النظم القانونية اللاحقة مثل الشريعة العبرية وقوانين شعوب الجوار. تبين أن العديد من المفاهيم الجوهرية كـمبدأ المعاملة بالمثل، وتنظيم العقود، والمسؤولية المهنية، وحماية الفئات المهمشة كانت حاضرة في شريعة حمورابي وانتقلت لاحقًا بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى الشرائع الأخرى وصولًا إلى الفكر القانوني الحديث. كما أوضحت الدراسة أن عملية تقنين التشريعات علنًا كما تجلت في مسلة حمورابي شكلت نقلة نوعية في تطور "مفهوم سيادة القانون"، وهو أساس النظم الدستورية الحديثة. خلصت الدراسة إلى أن شريعة حمورابي لم تقتصر على تنظيم حياة مجتمع بابل، بل جسدت رؤية فلسفية متقدمة حول العدالة والدولة والشرعية والعقد الاجتماعي، كما أشارت النتائج إلى أن هذه الشريعة قدمت نموذجًا تشريعيًا عميق التأثير ومتعدد الأبعاد يظل حاضرًا بروحه في العديد من التشريعات الحديثة التي تستند إلى القيم والمبادئ ذاتها، يعد هذا النموذج التأسيسي شاهدًا على الثراء الحضاري والتشريعي الذي تركته الحضارة البابلية للأجيال اللاحقة.